حوار مع كفى الزعبي المرشحة في القائمة القصيرة

11/04/2019

أين كنت وقت الاعلان عن القائمة القصيرة للجائزة؟ وماذا كان رد فعلك؟

كنت في روسيا، في بيتي في مدينة بطرسبورغ،  فأنا متنقلة في إقامتي مع عائلتي بين عمان وبطرسبورغ. في الساعة التي كان من المفترض أن تعلن فيها النتائج وقفت إلى النافذة، كي أنشغل عن التفكير في الأمر، بمراقبة الثلج الذي كان يتساقط بكثافة في الخارج. وفي لحظة  جاء زوجي. مد يده مصافحا وهو يبتسم قائلا: مبروك. بعدها بلحظات اتصلت بي الصديقة رنا إدريس، مديرة دار الآداب، لكنها فوجئت بأنها ليست أول من يزف لي الخبر. بالطبع فرحت جدا. شكّل ذلك بالنسبة لي نجاحا آخر للرواية، بعد دخولها في القائمة الطويلة، ومنحها بالتالي فرصة الوصول إلى شريحة واسعة من القراء العرب.  

 

متى بدأت كتابة رواية "شمس بيضاء باردة" ومن أين جاءك الإلهام لها؟

بدأت كتابة هذه الرواية في عام ٢٠١٤، بعد لقاء بشاب أردني حدثني عن واقعه البائس، وذكر لي أثناء حديثه أنه قد اضطر ذات مرة إلى استئجار غرفة كانت بلا نوافذ، وكان يعيش فيها قبله عجوز مات وتعفنت جثته.  على الفور رأيت في هذه المعلومة رواية. لم أكن أعرف بعد ما هي قصة بطلها التي سيتوجب عليّ تأليفها، لكنني كنت أعرف أنها ستحمل مقولات فكرية وفلسفية وجودية. بدت لي تلك الغرفة هي الحياة ذاتها: مغلقة بلا أفق، يقيم فيها الناس، ثم يموتون ويتعفنون.  بدا لي العجوز الذي سيتخيله البطل يحيا معه في الغرفة، هو ذاته أنكيدو الذي تعفنت جثته في ملحمة جلجامش لأن صديقه جلجامش رفض دفنه. وعلى الرغم من الفارق الشاسع بين شخصيات ملحمة جلجامش وشخصيات زمننا الحالي، إلا أنني رأيت أن هذه الشخصيات هي ذاتها...وقد تحولت من ملحمية تصارع قوى غيبة خارقة في فضاءات مشرعة، إلى شخصيات هزيلة مقموعة، مأزومة ومهزومة تحيا في أزقة مظلمة ضيقة وبائسة، لكنها تطرح الأسئلة ذاتها حول الوجود والخلود والعبث والعدم، وتعيد النظر في بعض مقولات ملحمة جلجامش حول الجنس الذي منح أنكيدو الحكمة.  إنه الإنسان ذاته. يتطور من حيث الشكل لكن مضمون صراعاته واسئلته يظل نفسه: الصراع من أجل البقاء، المصحوب بسؤال حول الغاية من هذا الصراع ومن هذا الوجود، لاسيما إذا كان هذا الوجود قد بات قائما في عالم مأزوم،  يفرض عليهم قيوده من كل الجهات، ويقمعهم بسلطاته المختلفة،  كما ويسعى لفرض رؤيته لهذا الكون عليهم، بالقوة والاضطهاد.      

 

هل استغرقت كتابة الرواية مدّة طويلة؟ وأين كنت تقيمين عند إكمالها؟

استغرقت كتابة الرواية أكثر من عامين ونصف العام، فأنا أكتب ببطء، وأعيد الكتابة وأعيد بناء الشخصيات والأحداث والصراعات إلى أن تأخذ السياق الذي أراه صحيحا لها، وبوسعه أن يفضي إلى المقولات التي أود الوصول إليها. 

كتبت غالبية أجزاء الرواية في عمان ـ الأردن، وبعض الأجزاء كتبتها في مدينة بطرسبورغ ـ روسيا، فأنا متنقلة في إقامتي بين عمان وبطرسبورغ.     

 

كيف استقبلها القراء والنقاد؟

استقبلها النقاد بإعجاب كبير على نحو يفوق ما توقعت. أشادوا ببنائها الفني، بدلالاتها ورموزها، بلغتها، وبمقارباتها مع الأسطورة، وببعدها العبثي، ومقاربتها مع أعمال البير كامو، لاسيما أسطورة سيزيف، الكتاب الحاضر في الرواية ويرافق البطل. كتب عنها كثيرون، منهم الدكتورة الناقدة اللبنانية يمنى العيد في جريدة القدس العربي، والروائي والناقد المغربي محمد برادة في جريدة الحياة، والشاعر الناقد الأردني مهدي نصير في الدستور الأردنية، والكاتب القاص الأردني يوسف ضمره في مجلة أفكار الأردنية، والروائي الأردني عبد السلام صالح في جريدة الدستور الأردنية، كما وشارك في تحقيق حولها الناقد الفلسطيني وليد أبو بكر في جريدة الأخبار اللبنانية، وفي سوريا كتب عنها كثير من الصحفيين، في جريدة الثورة وتشرين، أيضا كُتب عنها في موقع رصيف ٢٢.

أما القراء فقد أشادوا بها كثيرا، وعبروا عن إعجابهم البالغ بها، ودعوني في بعض الصالونات الأدبية في عمان لنقاشها، وكتب كثير من القراء بوستات على صفحاتهم في الفيس بوك عنها، ولا زلت على نحو متواصل أتلقي من القراء رسائل تعبر عن إعجابهم وتأثرهم الشديد بالرواية بعد قراءتها. وحينما عقدت ندوة نقدية حولها في عمان، اكتظ المكان بالحضور. 

 

تتداخل الرواية في بعض الأحيان مع ملحمة جلجامش – بل وتبدو كأنها إعادة قراءة لها في سياق شديد الواقعية. هل قصدت بناء الرواية والشخصيات لتكون إعادة قراءة للملحمة؟ وهل أنت مهتمة بالأساطير الإغريقية القديمة بشكل عام؟

بالتأكيد قصدت ذلك بل وعملت عليه طويلا، فقد كتبت هذه الرواية على مدار ثلاثة أعوام. كتبت خلالها كثيرا من الصفحات، وحذفتها. أعدت كتابة كثير من المشاهد مرارا وتكرارا، من أجل الوصول في نهاية المطاف إلى ذاك الصدق الفني في بناء الحدث الواقعي، في تطوره وفي تطور الشخصيات وصراعاتها، كي لا تبدو ملحمة جلجامش مقحمة ومفروضة مني على النص من دون أن يكون في النص ثمة ما يبرر حضورها. كان يجب على القصة والأحداث الواقعية أن تتقاطع مع الملحمة على نحو مقنع ومبرر فنيا.

أنا أرى أن الإنسان كان ولا يزال وسيظل يطرح الأسئلة الفلسفية الوجودية ذاتها التي طرحتها ملحمة جلجامش: سؤال الموت والخلود، سؤال العبث وسؤال المغزى. إنه يفعل ذلك لا رغبة في تكرار الأسئلة القديمة وإنما بحثا عن إجابات جديدة، وهذا يعني أنه لم يصل بعد لإجابات مقنعة تشفي غليل أوهامه، وتنقذه من العبث.  ثم إن الصراعات التي خاضها إنسان الأساطير مع قوى اعتقدَ أنها غيبية تتجسد في الآلهة وأنصاف الآلهة، ظلت قائمة في جوهرها منذ ذاك الزمن حتى الآن، لكن مع تحول تلك القوى الغيبية في عصرنا الحالي إلى سلطات فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية، انتجها الإنسان نفسه وبات أسيرها وفي صراع دائم معها.

 لكن رواية "شمس بيضاء باردة" لم تسعَ وحسب إلى إعادة قراءة الملحمة وتحول شخصياتها الأسطورية إلى شخصيات واقعية بائسة ومضطهدة تنتمي لزمننا الحديث، بل أيضا لتحاكم في بعض الأحيان ولتعيد النظر في بعض مقولات هذه الملحمة. كقصة البطل « راعي » مع عائشة البلهاء التي قاربتها في الرواية مع قصة أنكيدو والبغي.

بالعموم، أنا أنظر إلى الأساطير كأعمال أدبية عظيمة، عكست رؤية الإنسان في القدم للحياة وللكون. إنها الأداة المعرفية الأولى التي حاول بها الإنسان طرح أسئلته الفكرية والفلسفية الوجودية. لكنني كنت دوما مهتمة على نحو خاص بملحمة جلجامش البابلية المشرقية، و سيزيف الإغريقية، لعمقهما في طرح الأسئلة الوجودية وأسئلة العبث، ولروعة هذا الطرح من الناحية الجمالية للشكل الفني.       

 

عنوان الرواية "شمس بيضاء باردة" يحمل عدة تناقضات. هل يمكنك التعليق على ذلك. وكيف تم اختياره للرواية؟

اختيار هذا العنوان  تطلب مني وقتا، مما أخر في صدور الرواية. في البداية كنت قد وضعت عنوانا مبدئيا « يوميات في غرفة بلا نافذة» وكنت أرمز به للحياة المغلقة. لكنني لم أرض عنه أبدا في قرارة نفسي، لهذا وما إن دخلت الرواية في مرحلة النشر حتى بدأت البحث عن عنوان جديد، ليس مباشرا، يعبّر ببلاغة أكثر عن الرواية، ويحمل سمات جمالية أيضا. ثم أثناء إعادة قراءتي للنص، رأيته ذات مرة فجأة في داخل هذا النص، يرد مرتين في تداعيات أفكار البطل في اللحظات التي يتفاقم فيها شعوره بالعبث. إنه لا يرى الشمس كما هي: صفراء دافئة تشرق كل يوم وتشكّل مصدرا للحياة الخالدة، بل بيضاء وباردة كحتمية الموت والعدم بما أنه لا يرى مصيرا آخر ينتظره، كذات. رأيت أن هذا العنوان يعكس بالفعل التناقض القائم بين الحياة «الخالدة» أو على الأقل الممتدة طويلا، التي تشرق فيها الشمس الصفراء الدافئة، وبين حياة الإنسان الفرد، التي تومض فيها الشمس غير أنها سرعان ما تؤول إلى بيضاء وباردة.          

 

جاء تقسيم الرواية إلى أيام وليال بدلاً من فصول. لماذا اخترت هذا البناء؟

اختيار هذا البناء أو هذا الشكل الفني نابع من مضمون الرواية ذاته. حينما بدأت كتابتها لم يكن سؤال الشكل يؤرقني، لأنني في العادة لا أبحث عن بناء أو شكل فني جديد. ما يهمني أولا هو حكاية العمل بمضامينها، بشرط صدقها الفني المحكوم بسياقات الأحداث وتطوراتها وتطور الصراع  وتطور الشخصيات فيها. في البداية كتبت هذه الرواية بسرد متواصل مقسوم لفصلين. لكنني في لحظة اكتشفت أن هذا الشكل ليس مناسبا. لا يستجيب لتطور شخصية البطل، ولا يعبّر عن متتالية معاناته، ولا يرمز للحياة كأيام وليال يعيشها الإنسان، ويعيشها البطل تحديدا في غرقته التي بلا نافذة. لهذا نسفت الشكل الأول وأعدت بناء الرواية من جديد مقسمة إياها إلى نهارات وليال. لقد انبثق هذا الشكل من المضمون، وهو الذي حدده وليس أنا. فأنا على قناعة أن كل مضمون يحدد الشكل المناسب له بل ويفرضه في لحظة ما على الكاتب، كأنما انطلاقا من قانون داخلي يحكم النصوص ذاتها ـ بعيدا عن الكاتب ـ مفاده أن الشكل النهائي الذي يجب أن يؤول إليه العمل يقع على عاتقه أيضا حمل مقولات هذا العمل.         

 

ما هو مشروعك الأدبي بعد هذه الرواية؟

رواية أخرى، بدأت كتابتها قبل عام وعما قريب سأكملها. هناك أيضا نية لخوض تجربة كتابة نص دراماتورغي مسرحي، وضمن المخططات هناك مشروع بحث نقدي في الرواية، وهو في الأساس مقالة طويلة كتبتها سابقا حول السؤال الفلسفي في الرواية، وأنوي تطويره.